للمزاح الحق..شروطٌ هلا تحققت في بيوتنا!

للمزاح الحق..شروطٌ هلا تحققت في بيوتنا!

صعبٌ جداً أن يطأ الأب بيته فتتحول أصوات الأبناء العالية إلى همسات، ويتغير موضوع الحوار إلى تنبيهات بأن الوالد قد وصل فاحذروا، وعندئذٍ لا صوت يعلو فوق صوته..فما بين عتابٍ وأوامر يفتتح دخوله البيت، بينما عُقدة الحاجبين لا تفارقه طيلة وجوده في المكان الذي من المفترض أن يكون الأجمل بالنسبة له، عجيبٌ جداً ألا يكون لمثل هذا الأب موقعٌ للمزاح في حياته الأسرية!..لكن مع الأسف أنه حال كثير من البيوت وكأن الدعابة صارت ممنوعةً فيها.

عن المزاح يتحدث العلامة محمد راتب النابلسي في موسوعته، ولأن خير أسوةٍ لنا هو الرسول صلى الله عليه وسلم..سنبدأ من واقع المُزاح في حياته، إذ يصفه النابلسي بقوله:"كان عليه الصلاة والسلام يمزح، ويُعد واحداً من أهل بيته، فقد كان يكنس داره ويرفو ثوبه ويصغي الإناء للهرة ويخصف نعله، وكان في مهنة أهله، ويدخل بيته بساماً ضحاكاً، ويقول عن بناته: "فإنهن المؤنسات الغاليات".

البيت الفندق
وعن البيوت التي تضجّ بالقسوة والقمع والمتابعة والسيطرة واللوم والتقريع والتعنيف يقول النابلسي:"هذا البيت ليس بيتاً يجذب الأولاد إليه، بل هو عندهم فندق، يأتون إليه ليأكلوا ويناموا فقط، وليس كابنٍ يجلس مع أبيه لساعات طويلة يستمتع بحديث والده".

ولكي يكون المزاح حقاً فإن النابلسي يحدد شروطاً له، أولها أن يكون "قليلاً كالملح في الطعام، فإذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالمُزاح الكثير يُضعف الهيبة، ويُستخف بصاحبه ولا يُبالى بتوجيهاته ويُتساهل بتعليماته، وبكثرة المزاح لن يبقى مكانٌ للكلام الجاد أو الانتفاع من حديث الأب"، وفي الحديث النبوي:"لست من ددّ، ولا دد مني"، أي لست من أهل اللعب واللهو.

ثاني شروط النابلسي:"ألا يمسّ المزاح حرفةً أو فئةً أو جهةً أو طائفة أو مذهباً"، ويتابع: "من بين مائة طرفة لا يمكن أن تُلقي على أولادك إلا واحدةً منها، حيادية، لا تمس إنساناً ولا طائفة ولا مذهباً ولا لوناً ولا فئة ولا جهة ولا حرفة ولا مدينة"، والعلّة :"لو أنك تحدثت بطرفة قاسية جداً على حرفة من الحرف، سمعها ابنك طرب لها، وفي المدرسة قالها رفاقه فإذا بوالد يمتهن هذه المهنة، سيتقاتلون".

أشد أنواع المزاح معصيةً لله كما يرى النابلسي أن تسخر من شكل الإنسان وهيئته وقصره، فالأصل في الموضوع كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾، ثم الحديث: "رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفُوعٍ بالأبواب لو أقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ"، ومن هذا ما قالته السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم عن أختها صفية بأنها قصيرة فردّ عليها:"يا عائشة لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لأفسدته".

ويوجه النابلسي نصيحةً مهمة لك عزيزي القارئ:"لا تكن قاسياً فتُكسر ولا ليّناً فتعصر، فدائماً التطرف سهل والتوسط صعب، فمن السهل جداً أن تكون قمعياً وسهلٌ جداً أن تتجاوز عن كل الأمور، أما أن يكون ابنك في حيرةٍ من أمرك بحيث يحبك بقدر ما يخافك، أو يخافك بقدر ما يحبك، فأنت أب عظيم، لأن الله عز وجل وصف الأنبياء أنهم يعبدونه:﴿رَغَباً وَرَهَباً﴾، والمؤمنين:﴿خَوْفاً وَطَمَعاً﴾.

مقاييس النجاح
ويضع النابلسي مقياسين، أولهما لقياسِ نجاح الأب وهو أن يكون العيد بدخوله البيت، أما إن كان قاسياً فالعيد يبدأ بعد خروجه، والمقياس الثاني مختص في تحديد مدى أخلاقيته، فكما يقول فإن الإنسان الأخلاقي يُمدح في غيبته، أما القمعي فيمدح في حضرته، ويكون المديح لقوةٍ فيه أو اتقاءً لشره أو طمعاً بما لديه.

ويصف النابلسي المزاح القاسي بأنه من أكبر أنواع المعاصي، موضحاً:"أي أن تخفي لإنسان حاجةً أساسية وهو عصبي المزاج عندئذٍ يمكن أن يضطرب فيلقي كلمة قاسية، فإخفاء حاجة أو إبلاغه بخبر سيئ أو تهديد أو وعيد، وأحياناً خبر سيئ قد يسبب أزمة قلبية وأحيانا يموت، والدليل قوله تعالى: ﴿مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ﴾".

وهنا يذكّرنا النابلسي ببعض ما قاله الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ في هذا السياق ومنه: "لا يحلُّ لمسلم أن يُروِّعَ مُسلما"، و"لا تحمرّوا الوجوه "، و"لا تروعوا المسلم فإن روعة المسلم ظلم عظيم ".

وكما يبين النابلسي فإن من شروط المزاح أيضا أنه يجب أن يكون حقيقة لا كذباً، "ويل للذي يُحدِّث بالحديث ليُضحك به القوم، يَكذب، ويل له، ويل له"، وكذلك أن تكون النتيجة من وراء ذلك الإيذاء والإرباك والإحباط، مستشهداً بالحديث النبوي:"ثلاثة جِدّهن جِد وهزلهن جد: النكاحُ والطَّلاقُ والرَّجْعَةُ".

وفي المزاح أيضاً ما يغضب الله عز وجل، ومنه كما يقول النابلسي: "قضايا الزواج والشراكة والسفر والوظيفة، ومما يقوله عليه الصلاة والسلام:"لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاح والمراء وإن كان صادقاً".

ومن أشكال مزاح النبي الكريم التي يعددها لنا النابلسي أنه ذات مرة وضع يديه على صحابي وقال: من يشتري هذا ؟ فلما فتح عينيه رأى رسول الله، فقال: أنا كاسد، تبيعني؟ قال له: أنت عند الله لست بكاسد، وأنه عليه الصلاة والسلام قال لصديقه في البادية واسمه زاهر:"زاهر باديتنا، ونحن حاضروه".

التعميم من العمى
ولابد أيضاً من تجنب التعميم كما يبين النابلسي: "لا تعميم، فالتعميم من العمى، وإذا قرأت القرآن الكريم يتضح في قول الله عز وجل:﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ﴾، ويقول: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾.

ويتابع:"تتضح ثقافة الإنسان الراقية من عدم التعميم، والموضوعية قيمةٌ أخلاقية، فأنت عالِم إذا كنت موضوعياً، وأخلاقي إذا كنت أخلاقياً، الموضوعية أن تعطي حكماً حيادياً وأن تصف الشيء كما هو عليه، فلذلك فإن من الخطأ أن تلقي طرفة فتقول كل أهل هذا البلد هكذا".

وينصح النابلسي بالتحلي بالتواضع واللطف والابتسامة قائلا:"الابتسامة صدقة، والمصافحة صدقة، كان عليه الصلاة والسلام إذا صافح كان آخر من يسحب يده إذا صافح، فأنت بابتسامتك ولطفك وتواضعك تجذب قلوباً كثيرة".

وفي هذا السياق يروي لنا قصة مدرس أسلم على يديه عشرة من البوذيين بسبب لطفه مع أحدهم، والقصة أن المعلم قدّم ذات يوم كأسا من الشاي لخادم أسيويّ يعمل في ذات المدرسة لأن الوقت المخصص للراحة قد انتهى، فإذا بالخادم يأتي في اليوم التالي ليستفسر عن السبب: "أنا هنا في هذه الثانوية منذ سنتين، لم يسلم عليّ أحد، أنت لماذا قدمت لي هذا الكأس؟، فأخفاه عن الحقيقة وقال: "أردت أن أكرمك به"، فإذا بهذا الفرّاش يفاجئ هذا المدرس بأنه يحمل بكالوريوس بالعلوم، وقد جاء من بلادٍ بعيدة وقبل العمل كخادم لفقره المدقع، فدعاه إلى بيته ثم تطور الأمر إلى دعوة أصدقاء له في جلسة دينية، كان نتاجها أن أسلموا جميعا.

المصدر: صحيفة فلسطين