تأمـلات

تتنامى في نفوسنا يوما بعد يوم، تتعاظم وتكبر في مخيلتنا روح الأصالة، تفتح عقولنا لآفاق متشعبة، تظهر بريق أفكارنا التي تكدست مجاديفها في بحر الظلام معطلة، تدق ناقوس ضمائرنا علها تصحو من غفلتها في يقظة حائرة، لتشعل فتيل الأمل التائهة. تأملات نستنشقها من عبير أزهارنا اليانعة، تتمايل أغصانها للنسيم تداعبه، فأينما هب نسيمها فاح عطرها.

فمسيرة الإبداع وضعت أقدامها على عتبات المستقبل، تحاكي السائل بالصعوبات المتوجة بالمخاطر المستوحاة من حياتنا اليومية وأعمالنا الروتينية، فأول عتباتها تحديد سلوك الفرد في المجتمع والبيئة المحيطة به، لنستشف طموحه ونستوعب أفكاره بما يتماشى وتطلعاته نحو الأفق، فإذا وجد أرضا خصبة تتيح له التقدم والرقي بمختلف جوانبها؛ تزرع نواة الخير لتنمو جذور العطاء بالسعادة المجبولة على الإخلاص، نكون قد اجتزنا العتبة الأولى.

فالتضحية وعمل المستحيل للنيل بالهدف المنشود وإرساء قواعدها خطان مكملان لبعضهما البعض، فهما الركيزة الأساسية قبل الشروع بأي خطوة تتجهها والدعامة الضامنة له، فإن استوعبنا كل الأفكار والنقاط البارزة دون إهمال أو ترك أي جانب من جوانبها، وأخذها على الأمد البعيد، ومناقشتها بما يتطلب في صقل الشخصية وانعكاساتها على المجتمع نكون قد تخلصنا من العتبة الثانية، لأنها الدافع نحو مستقبل غامض مليء بالشوائب التي تستنزف العقول وتثبطها وتثني عزيمتها، فإن كنا ملمين بها نكون قد حققنا السد المنيع أمام كل المعيقات وكل المستجدات التي تعترض طريقنا نحو الإبداع.

أما العتبة الثالثة فتتلخص في توفير المناخ اللازم، فهو يعتبر من أهم ما يحتاجه المبدع في تنمية قدراته الذهنية والفكرية، سواء على الصعيدين المادي والمعنوي. ولسنا بعيدين عن أسلافنا الصالحين، فهم من خطو وأسسوا لنا هذا الطريق، فلنستذكر ما كتب في طيات تاريخنا المشرق والمشرِّف أمثال الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي دأب يعطي كل من ألف كتابا أو ترجمه وزنه ذهبا، حتى أنشغل المسلمون في ذلك الوقت بطلب العلم، فالجانب المادي ضروري لتحفيز النفس وتوفير متطلبات المرحلة المطلوبة مع المزج بالجانب المعنوي في تحفيز العقل وتنشيطه ودفعه نحو صمام الأمان بعيدا عن التخاذل والتقاعس وبعده عن الهدف حتى لا يفقد الإنسان صوابه في طريقه الطويل بعد أن قطع شوطا كبيرا في التأسيس للمرحلة المقبلة وترجمتها على أرض الواقع.

تبدأ مرحلة الترجمة وتصويرها على الأرض كما خطط لها عند تحقق الشروط السابقة الذكر، ودراسة كل المعيقات التي ستطرأ في هذه المرحلة، والتي لم تكن في الحسبان، أو عدم معرفة نتائجها قبل التطبيق لعدم توفر إمكانيات هذه المرحلة إلا بعد التطبيق الفعلي لها، ومشاهدتها عن قرب من منظور استنباط حقيقتها المرسومة في ذهن المبدع وإطلاق العنان لمخيلته ضمن حدود المعقول التي تستجدها الأفكار العابرة، دون التركيز على تحقيقها كاملة، فهي لا تزال قيد التجربة في هدفها المحدد وعملها، وبذلك تتيح لنا الطريق للانطلاق نحو العتبة الخامسة.

البحث عن أسباب النجاح وتدوينها بإسهاب، والأسباب التي حالت دون نجاحها، وإيجاد المخرج لها وتوثيقها توثيقا دقيقا حتى لا نقع بها، فعوامل النجاح مرهونة في الوقت؛ لأنه من غير المعقول هدر الوقت، وأن نبدأ من الصفر بعد اجتيازنا الخطوات السابقة للمثل، لذا يجب أن نكون على دراية تامة وأن نعي ما نقوم به.

وللإبداع شروط معقدة وسهلة في نفس الوقت، ومن هذا المنطلق تبدأ مسيرة الإبداع الحقيقي أو ما يسمى بالصراع العقلي، فكل المعوقات اجتزناها في عتباتنا السابقة ما هي إلا ركائز ساعدتنا للدنو والشروع بشحذ الهمم بالنظر وصياغة الإبداع الصغير في كيفية تطويره وإعادة تشكيله بعين الناقد، لتتسع الدائرة لتشمل أصحاب العقول النيرة والبصيرة وذوو الاختصاص كل بدوره في صقل الرؤية بانسجامها وتكاملها ومدى استجابتها للمحطات التي تعترض طريقها ومرونة أصحابها بما يتحقق ويتناسب وقوانين الطبيعة؛ حتى لا تكون الصخرة التي تعترض الطريق وتذهب به إلى مرحلة اليأس وإقراره بالفشل.

وبذلك نكون قد وضعنا حجر الأساس وفتحنا الطريق لغيرنا للرقي بحضارة الإبداع واللحاق بالركب عبر كوكبة العلم بشعاع النور في وجه المثبطين والمراهنين بالتخاذل لأمتنا، واللاهثين لسراب الثقافات الهدامة المعولة على لجم العقول وتقييده أمام بوابة التأمل. فبحور العلم غزيرة بالكنوز الدفينة، وجريان أنهاره كفيل بشق مجاريه، فلنمتطي السفن ونصطاد ما يمكننا من تأملات.